نجاح التجربة اليابانية بالأعمال (الإدارة بالأخلاق)
اليابان ذلك البلد الآسيوي العريق والمكون من أكثر من خمسة آلاف جزيرة يهز العالم بانجازاته. أكثر مما تهزه حركة الأرض بزلازلها، واليابان تشكل بحق ظاهرة اقتصادية متفردة وجديرة بالدراسة والتحليل،
بهدف الاستفادة منها، خاصة لبلد مثل سورية يعيش حالة تطوير وتحديث على جميع المستويات، فاليابان كدولة وشعب تتمتع بسمعة طيبة لدى أغلب شعوب العالم، فسياستها الخارجية يغلب عليها الطابع الإنساني التي تعكس طبيعة وثقافة المواطن الياباني من تسامح وروح جماعية وحب للعمل، وعلى الرغم من أن اليابان دفعت ثمناً غالياً في الحرب العالمية الثانية وتعرضت لأول عدوان ذري في التاريخ راح ضحيته مئات الآلاف من أبنائها، إلا أن الشعب الياباني العنيد والمثابر والمتمسك بأصالته نهض من الحرب بقوة، موقناً أن سر النجاح يكمن- كما ورد على لسان أحد سياسييه في حوار مع الزعيم الهندي نهرو- تحت القبعة في إشارة للعقل المبدع.
لقد اهتم الكثير من المحللين الاقتصاديين بما حققته اليابان من نجاحات في ميادين عديدة، فعلى سبيل المثال هناك أكثر من 128 شركة يابانية من بين أكبر 500 شركة عملاقة على مستوى العالم، وتمتلك اليابان أكبر فائض تجاري في العالم بالتوازي مع الصين، ويرجع المحللون الاقتصاديون نجاح التجربة اليابانية إلى عدة عناصر منها الإدارة اليابانية الفذة والكفوءة في ميدان الأعمال وقيادة المجتمع الياباني من خلال عناصر ثلاثة وهي الإنسان الياباني المتفوق بحكم تعليمه وتأهيله، والإدارة الرشيدة، والثقافة الإجتماعية التي تقدس العمل. فبالنسبة للعنصر الأول وهو الإنسان هذا لا يعود قطعاً لأسباب عرقية وإنما لسبب جوهري هو إيمان الإنسان الياباني بالعلم وقناعته بأنه سبيل التطور والتقدم واستعداده الدائم للتعلم الذاتي والتعمق في الاختصاص العلمي واحترامه لتقاليد وقواعد العمل، أما بالنسبة للعنصر الثاني فالثقافة العامة الاجتماعية تتأسس على تقديس العمل واحترامه والروح الجماعية التي يحملها المواطن الياباني واتساقه وانسجامه مع الجماعة واعتقاده أن احترام الجماعة له يتم من خلال عمله المنتج الذي يحتل المرتبة الأولى في سلم القيم، والعنصر الثالث في نجاح التجربة اليابانية وهو الأهم فيكمن في النظام الإداري الذي يقوم على الصرامة في تطبيق القوانين وأنظمة العمل وتحفيز الإبداع والابتكار، وهي العوامل الأساسية في الانجازات العالمية والتكنولوجية والقفزات الحضارية التي حققتها اليابان، ولعل ما يميز الإدارة اليابانية وآلية العمل هو ان العمل لدى المواطن الياباني هو وظيفة مدى الحياة وهذا يخلق لدى العامل شعوراً عميقاً بالراحة والاستقرار والأمن الوظيفي ويقابل الولاء للعمل شعور بالاحترام من رب العمل ورعاية وحماية دائمتان يضاف إلى ذلك استمرار البحث والتدريب والإبداع في إطار ثقافة متخصصة ومتجددة تكرس مجد المؤسسة ومقابل ذلك تقوم جميع مؤسسات الأعمال ومنظماتها بدفع مكافآت سخية للعاملين فيها لا تقل عن أجر ستة أشهر وهي لا تدفع على أساس المستوى الفردي لأداء الموظفين بل على أساس أداء المؤسسة بالكامل وانجازاتها، لأن الوظيفة في اليابان لا تعتبر صيغة عقدية من أجل الحصول على المرتب فقط، وإنما وسيلة لتحقيق الذات وتعزيز الهوية في إطار مجتمعي واقتصادي أكبر.
إن الموقف من العمل باعتباره وظيفة اجتماعية هو المحرك والمحرض الداخلي للعامل الياباني، وربما كان من أقوى الدوافع على الإنتاجية العالية، ولعل ما تجدر الإشارة إليه وهو من أهم عناصر الانجاز والنجاح الطريقة التي تتخذ فيها القرارات المتعلقة بتطوير عمل المؤسسات والأداء بشكل عام فالقرار- وإن كان يصدر عن مؤسسة عليا أو منظمة - إلا أنه لابد أن يمر عبر قنوات متعددة، أول من يشارك فيها العامل في الشركة أو المؤسسة، ويتدفق القرار من أسفل التنظيم إلى أعلاه مع ملاحظة النتائج التي تترتب عليه وآثاره الاقتصادية والاجتماعية، وتأكيد وجود ضرورة لاتخاذ قرار جديد ولماذا وكيف؟ وبهذا يسعى اليابانيون لتحقيق التوافق والتكامل في دائرة القرار وهم في سبيل ذلك يمضون أشهراً أو سنوات لدراسة القرار، وعندما يتخذ ينفذ بشكل مباشر وسريع بفضل المشاركة الجماعية والقياس والرصد والتحليل، ويطلق اليابانيون على هذه العملية (هارجي) ومعناها هضم الطعام وهي تدل على أهمية التفاعل المشار إليه آنفاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق