المثقف بين الطموح و تسويق الذات
كنت و ما زلت أعتقد أن أنبل ألوان الطموح (إن كان للطموح ألوان) هو ذلك الذي تتعدى أهدافه الفرد لتصل إلى المجموع، إذ تتجسد من خلاله أروع صور نكران الذات و الذوبان في الآخر. لست أتحدث هنا عن نوع من أنواع الخيال غير الممكن، فهذا الصنف من الطموح له مظاهر عدة، فعلى الصعيد الأسري نجد طموح الوالدين فيما يتعلق بمستقبل أطفالهما، و على الصعيد الاجتماعي يتجلى هذا الطموح من خلال ميل الجماعات البدائية لحفظ تراثها و تاريخها بإسم المجموع لا الفرد، و لعل الأشعار الغنائية التي تزخر بها أغلب الثقافات الإنسانية تصلح أن تكون مثالا على ذلك، فالقصيدة الغنائية البدائية ليس لها مؤلف تعرف به، بل شعب تدل على وجوده!
في مقابل هذا النوع من أنواع الطموح، هناك طموح الفرد الذي تجسده الأنا الذاتية. عندما انتهى "سيرفانتس" من كتابة روايته الخالدة "دون كيخوته"، و كان ذلك في أواخر القرن السادس عشر، حاول أحد الكتاب المغمورين التسلق على أكتاف "سيرفانتس" من خلال كتابة رواية متواضعة بطلها "دون كيخوته" نفسه، الأمر الذي دفع الكاتب العظيم لكتابة جزء ثان لروايته الخالدة! من الواضح أن "سيرفانتس" كان يدافع عن نجمه الساطع في سماء الأدب، أو عن حقوق الملكية الفكرية في لغتنا الحديثة، و رغم ذلك رحل "سيرفاتنس" و بقي "كيخوته" خالدا بيننا! في رسالة بعث بها آينشتين إلى عالم الرياضيات الألماني "هيلبرت"، كتب آينشتين يقول: "الحلول التي توصلت إليها أنت تتفق تماما مع الحلول في نظريتي، و سبق و أن نشرتها قبل أسابيع". من الواضح أن آينشتين كان حريصا على تسجيل السبق لنفسه في التوصل إلى نظرية النسبية العامة، لكن الخلاف مازال دائرا في الأوساط العلمية إلى يومنا هذا حول دور "هيلبرت" و علماء آخرين في النتائج التي توصل إليها آينشتين!
لست أدري ما هو رأي علماء النفس فيما يتعلق بسيكولوجية الطموح في وقتنا الحاضر، لكن يبدو أن الطموح الذاتي في هذا العصر، عصر المال و النفوذ و الوجاهة، يمتاز في خصلة واحدة، فهو و إن كان طموحا فرديا صرفا، إلا أنه يحتاج إلى المجموع لتحقيق ذاته. من الصعب- في وقتنا الحاضر- تخيّل إمكانية الطموح في وجود عزلة إجتماعية. إنسان الوقت الحاضر طموح جدا، لكنه لا يستغني عن جمهور يصفق له! هل ولىّ زمن "ابن يقظان" إلى غير رجعة؟ هل ولىّ زمن الطموح للوصول إلى المعرفة في ظل عزلة موحشة في جزيرة نائية؟
أستطيع أن أتفهم هذا الطموح الذاتي الجامح لرجل الأعمال، و السياسي، و حتى الموظف الصغير، لكن ما عذر المثقف في الوقوع في فخ هذا النوع من الطموح؟ من السهل أن يتبجح البعض في إبراز دورهم كمثقفين في "إنقاذ الأجيال القادمة"، لكن من العسير أن يعترفوا بأنهم ليسوا سوى أسرى مرض العصر الحاضر: تسويق الذات! الجميع ينشد التغيير إلى الأفضل، و هذا في حد ذاته هدف نبيل من دون شك، لكن البعض يشترط أن يحمل هذا التغيير توقيعه الخاص! في عصر السرعة و الإيقاع اللاهث، يعيش بعض مثقفي العصر الحاضر حالة من الفانتازيا المرضية، فهم قادرون على تخيل جني الثمار قبل دفن البذور، إنهم يحصدون قبل أن يزرعوا! غرور الإنسان تلقى ضربة قوية على أيدي "كوبرنيكوس" و " كبلر" و "جاليليو"، فالأرض لم تعد مركز الكون، لكن "الأنا الذاتية" كانت و ما زالت مركز الكون في عينيّ كل نرجسي!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق